الخميس، 3 يوليو 2008

ساحة المرجة













ساحة المرجة :
يطلقون عليها عاصمة العاصمة وأم الميادين والساحات العامة الدمشقية والمكان الذي يجمع الأضداد والتناقضات من العمارة القديمة والحديثة إلى مختلف طبقات المجتمع الدمشقي، من الفقير إلى الثري ومن المتسول حتى البائع البسيط وأصحاب المحلات الكبيرة مروراً بتجار العملة الصعبة وسماسرة الفنادق.. إنها «ساحة المرجة» أقدم وأول ساحة عرفتها دمشق المعاصرة مع بدايات القرن العشرين المنصرم. و«ساحة المرجة» بتاريخها الحافل وتناقضاتها العجيبة وموقعها الاستراتيجي المميز وسط دمشق مع الأسواق المتفرعة عنها، جعلها مكاناً يجمع الخيال مع الموقع ويقدم قراءة لمفردات الحياة الدمشقية، لتأتي الساحة متفردة بكل شيء ومتميزة عن كل ساحات وميادين دمشق.



ففي المرجة ينتصب العمود الشهير الذي بُني مع تأسيس الساحة قبل مائة عام، وبُني على هذا العمود مجسم لجامع هو الأصغر في العالم، وجاء هذا العمود والمجسم تذكاراً لتدشين الاتصالات بين دمشق والمدينة المنورة في أواخر العهد العثماني ومتزأمناً مع إطلاق الخط الحديدي الحجازي ومحطة القطارات المجاورة لساحة المرجة، وقد أقيم العمود والنصب التذكاري سنة 1907، أيام الوالي العثماني حسين ناظم باشا ولا يزال إلى اليوم. وقد صمم هذا النصب فنان إيطالي وقام بتنفيذه من معدن البرونز، كما أقام فوقه نموذجاً دقيقاً لجامع يلدز في العاصمة اسطنبول.




كما شهدت المرجة أحداث سياسية مهمة وكوارث طبيعية، فبعد سنوات من تأسيسها شهدت قيام جمال باشا السفاح بإعدام رجالات سوريا ولبنان في 6 مايو (أيار) من عام 1916، وقد أطلق على المرجة في ما بعد اسم «ساحة الشهداء»، كما شهدت إعدام أبطال الثورة السورية الكبرى (1925 ـ 1927)، الذين كانت فرنسا تلقي بجثثهم في ساحة المرجة بغية نشر الرعب في النفوس ـ كما يقول المؤرخ الدكتور قتيبة الشهابي. ومن الكوارث الطبيعية التي شهدتها الساحة طوفان نهر بردى المتكرر الذي كان يسمى (الزورة أو الفيضان)، إثر الأمطار الغزيرة، حيث تغمر الساحة والأسواق المجاورة. وقد كان نهر بردى في بدايات القرن التاسع عشر يتفرع في هذه الساحة إلى فرعين يحتضنان جزيرة صغيرة غنية بالأشجار، كان يطلق عليها البعض اسم الجزيرة أو بين النهرين ومن ثم أطلقوا عليها المرجة، بسبب غناها بالأشجار وحالياً وبعد جفاف نهر بردى لم يبق من الساحة سوى ممر النهر الذي قامت محافظة المدينة بتزيينه بالبورسلان وأنشأت حديقة صغيرة جميلة غرست فيها الأزهار والورود الشامية وزينت بنوافير المياه تحيط بالعمود التذكاري، كما أنشأت في وسطها جسر للمتنزهين وطوقت الساحة بسوار حجري مزخرف جميل.




وكون المرجة تشكل قلب دمشق، ظلت لعقود في القرن الماضي المكان الرئيسي لانطلاق حافلات النقل الجماعي إلى المدن السورية وإلى حارات وريف دمشق، حتى أن الساحة تؤرخ عبر ما مر عليها من آليات ووسائل نقل حركة النقل الداخلي والخارجي في دمشق. فبعد انتشار عربات الخيل (الحنتور)، أصبحت المرجة محطة لعربات الخيل السوداء تنقل الناس إلى أحيائهم في المدينة وإلى الضواحي، وكانت هذه العربات تقف حول الحديقة الصغيرة التي تحيط بالعمود التذكاري. كما أن المرجة شهدت الانتشار الأول للأتمتة الآلية بدخول الترام أو الحافلة الكهربائية (الترامواي) إليها سنة 1907، ومن ثم السيارة التي دخلت إليها عقب انتهاء الحرب العالمية الأولى (1918)، وكان الدمشقيون يسمونها (أوطونبيل)، إلى جانب سيارات الأجرة الكبيرة التي كانت تؤمن السفر إلى خارج المدينة وتعرف بالبوصطة، وسيارات القاطرة والمقطورة للنقل عبر الصحراء (شركة نيرن) وغيرها، ثم حافلات النقل الداخلي ضمن المدينة التي بدأت بالسير منذ نهاية الحرب العالمية الثانية سنة 1945. وفي خمسينات القرن الماضي أصبحت المرجة المكان الرئيسي لانطلاق (تكاسي) السفر الجماعي إلى جميع المدن السورية، حيث تحولت محلاتها الكبيرة إلى مرائب خاصة بكل مدينة تنطلق منها وغدو إليها سيارات الركوب الصغيرة، فكان جميع السوريين القادمين إلى العاصمة دمشق يحطون رحالهم في ساحة المرجة قبل أن يستقلوا الترامواي أو حافلة النقل الداخلي في ما بعد ليذهبوا إلى مقاصدهم في العاصمة. وقد انتهى دور المرجة بشكل نهائي كمرآب رئيسي مع سبعينات القرن الماضي عندما تأسست مراكز انطلاق حديثة في ساحة العباسيين والقابون ومن ثم حرستا، لكن بقيت العديد من محلاتها تذكر بدور الساحة كمرآب من خلالها تحولها لمكاتب سياحة وسفر. وفي الجانب العمراني بالساحة، فإن المرجة تضم عشرات الأبنية المختلطة ما بين العمارة القديمة والحديثة، العمارة الشرقية والأوربية، فالمرجة شهدت تأسيس فنادق دمشق الحديثة أوائل القرن الماضي بعد انتهاء دور الخانات المعروفة كأماكن لنوم زوار دمشق، كما عرفت المرجة أول دور السينما في دمشق، حيث تأسست فيها سينما زهرة دمشق (سينما باتيه) عام 1918، وأغلقت سنة 1928، ومن ثم تأسست سينما الاصلاح خانة عام 1921، وسينما الكوزموغراف ومن بعده صارت سينما: غازي وسنترال وفاروق والنصر. وانتشرت فيها ولا تزال المقاهي، ومن أقدمها مقهى الكمال وعلي باشا والورد، وشهدت ولادة المسارح الدمشقية، ومنها مسرح زهرة دمشق والنصر ومسرح القوتلي الذي أسس في بدايات القرن العشرين وانتهى بحريق سنة 1928، وكان يغني فيه مشاهير المطربين.




ويشاهد في المرجة أبنية ذات طرز متعددة كدار البلدية والسرايا الجديدة والصيدلية ومبنى العابد (ما زال قائماً حتى الآن)، حيث تلاحظ أنماط العمارة (كالباروك والروكوكو)، وانتشار أبنية خليط ما بين الطراز الأوروبي المتأثر بالفن اليوناني أو الأوروبي مع بعض اللمسات العثمانية كمبنى العدلية والبريد والبرق.




والمرجة حالياً التي ما زالت مترسخة في تراث الدمشقيين، خاصة في تلك الأهزوجة الشعبية الجميلة التي تتردد باستمرار في العراضات الشامية والمسلسلات التلفزيونية والتي تقول: (لاقونا عاالمرجة والمرجة لينا.. شأمنا فرجة وهي مزينة).. فالمرجة ملتقى جميع الدمشقيين والسوريين حتى الآن وهي حالياً خليط غريب تجمع محلاته كل أنواع المهن، خاصة تلك التي تعرف بها المرجة حالياً ومنها محلات بيع الحلويات الدمشقية الفاخرة ومحلات بيع المكسرات، خاصة الفستق الحلبي، حيث تباع أجود المكسرات في هذه الساحة وهناك المطاعم والمقاهي الشعبية ولعل أشهر الأطباق التي تقدمها هي أطباق التسقية (فتة الحمص الشامية الشهيرة)، التي تقدمه مطاعم المرجة صباحاً ومساء، كذلك تخصصت المرجة باحتضانها لمكاتب المترجمين المحلفين الذين يقومون بتحضير المعاملات القانونية لمن يطلبها والمراد استخدامها في الخارج وترجمتها لكل لغات العالم الحية، كما تنتشر في المرجة محلات بيع الشرقيات والتحف والمصنوعات اليدوية الدمشقية والآلات الموسيقية وغيرها.. ولعل المرجة حالياً المكان الوحيد في دمشق الذي لا ينام، حيث تنتشر فيها الفنادق الشعبية والفخمة وعلى أرصفتها يظل باعة الدخان على البسطات مستيقظين ليلاً نهاراً كما لم يتأخر بائعو أجهزة الخليوي من الاستفادة من شهر ساحة المرجة فوضعوا بسطاتهم على أرصفتها يبيعون ويشترون الأجهزة المستعملة.




ليست هناك تعليقات: