الخميس، 3 يوليو 2008

سوق الحميدية


سوق الحميدية








ظل سوق الحميدية يحمل اسمه القديم رغم تعدد الأسماء في الأزمنة السابقة بعدما داهمته الحرائق مرات عدة. وحينما اندلعت النيران في المنطقة الجنوبية من السوق إثر قصف الطائرات الفرنسية، أصبحت المنطقة تحمل اسم “الحريقة” بعد أن كان اسمها “سيدي عمود” نسبة إلى اسم شيخ ولي كان ضريحه قرب عمود حجري ضخم. وخلال سنوات عديدة اتضحت قدرة تجار السوق على حماية قيمته التجارية وتحقيق استمراريته رغم تعرضه للدمار، لذلك حافظ على حركة تجارية متميزة بتنوعها وجودة بضاعتها، فبقي السوق الأكثر شهرة من الأسواق الأخرى.

وفي الخمسينات والستينات، وخلال فترة الوحدة السورية المصرية، حقق السوق شهرة واسعة، بعدما انتقلت بضائعه إلى المدن المصرية، لكنه الآن يدخل منافسة شديدة مع الأسواق الحديثة بعدما اتسعت المدينة خارج سور القلعة القديم. ولأن سوق الحميدية ينتمي إلى القرون السابقة، جاءت التعديلات الجديدة التي شملت أكثر أسواق دمشق الأثرية لتعيده إلى ماضيه وتبرز عواميد محلاته وتيجانها وحجرها العتيق، وتلغي مظاهر العشوائية، وتحقق شكلاً موحداً للواجهات المتجاورة.

من الباب الرئيسي الواسع يتم الدخول إلى السوق بعد انتهاء شارع النصر المبني خارج السور التاريخي. وداخل الحميدية يغيب ضوء النهار وتسطع أنوار الكهرباء لتبديد ظلام يقبع تحت السقف الحديدي المرتفع بما يعادل 15 متراً فوق طابقين، مما يتيح للمحلات أن تستقبل زبائنها في الطابق الأرضي أو في الطابق الأول، بينما بعض المحلات أصبح من ثلاثة طوابق مملوءة بأنواع عديدة من البضاعة المهيأة للعرض.

عواميد أثرية: لا تدخل السيارات إلى هذا المكان القديم المخصص لاستقبال السياح والزبائن. ولا تتواجد الأرصفة حالياً بعد عملية التجديد الأخيرة، وحجر “اللبون” يرصع الأرض من أول السوق إلى آخره حيث تظهر منطقة “المسكية” وهي تفتح أفقها على ضوء النهار، فيما عواميد أثرية تظلل بسطات الألعاب والكتب المدرسية ومحلات القرطاسية المالئة سوق المسكية، ليبدو الباب الرئيسي للجامع الأموي الكبير مشرعاً أمام الوافدين من المصلين والزوار والسياح.

وعلى امتداد 610 أمتار تتوزع محلات سوق الحميدية، فيما عرضه لا يتجاوز 16 متراً، لذلك يبدو مكتظاً في أكثر أوقاته، وتبدو حركة البيع داخله لاهثة وسريعة حينما يأتي موعد الإغلاق في المساء، وتبدأ الظلمة في التسرب من شقوق السقف المكون من الحديد وصفائح التوتياء بعدما كان مصنوعاً من الخشب في حقبة زمنية قديمة.

مضى أكثر من قرنين على بناء القسم الأول الغربي من سوق الحميدية، كما تؤكد الوثائق القديمة. بني السوق ليكون بديلاً لسوق “الأروام” في عام ،1780 وليحمل اسم سوق “الجديدة” وهو يمتد بين باب النصر وسوق العصرونية وذلك أثناء فترة الوالي محمد باشا العظم في عهد السلطان العثماني عبد الحميد الأول. وجرى بناء القسم الثاني الشرقي الممتد من سوق “العصرونية” إلى باب البريد الملاصق للجامع الأموي في عام ،1883 وكانت فترة الوالي راشد باشا في عهد السلطان عبد الحميد الثاني. ومن اسم السلطان تم اشتقاق اسم السوق “الحميدية”. غير أن خريطة شرطة دمشق في تلك الفترة، صدرت في مناسبات عديدة ابتداء من عام 1922 وهي تطلق على السوق اسم “الأروام” بينما خريطة بلدية دمشق صدرت قبل ما يقارب عامين لتعطي السوق اسم “الحميدية” فترسخ واستمر حتى الفترة الحالية بعد إلغاء الاسم الأول “الجديد” وإلغاء الاسم المرادف “الأروام”.

ومنذ بدايات نشأة السوق وعلى امتداد سنوات عديدة، تجددت ملامحه وتغيرت إثر الحرائق المتتالية. في عام 1911 حدثت الحرائق الأولى المجهولة الأسباب حتى الآن. وكان السوق يمتد داخل مساحات واسعة جداً حينما قرر جمال باشا بعد الحرائق الأولى أن يهدم شارع النصر الباقي حتى الآن، ليكمل سوق الأروام الحميدية، ويكشف بقايا بناء السوق حول الجامع الأموي، وحينما بدأ بتقويض بعض الأبنية توقف مضطراً بعدما استعرت نيران الحرب العالمية الأولى وأدخلت الدولة العثمانية في أتونها سنوات عدة، ليعيد أصحاب العقارات المهدومة بناءها بعد بدء انسحاب الجيش العثماني من دمشق. لكن جاء حريق عام 1920 ليمتد من السوق إلى خان الجمرك ومنطقة “العصرونية”، فتجددت عملية البناء، لكن رغم كل هذه التغييرات ظل السوق محافظاً على اسمه العثماني الأصل وبقي معروفاً باسم سوق الحميدية بين الناس مما دفع لتغيير اسم السوق في خريطة ووثائق بلدية دمشق.

الوثائق المصوّرة: تاريخ مدوّن على صفحات الأزمنة، ومن خلاله برز الشكل الجديد للسوق بعدما ظهرت وثائق مصوّرة عام ،1890 وعليها عبارة “بازار” ومعنى الكلمة في اللغة التركية “السوق” وقد ظلت تستعمل مع عبارات تركية كثيرة في المدن السورية القريبة من الحدود التركية فترة طويلة بعد انتهاء الحكم العثماني. وأصبحت هذه الوثائق المصوّرة لشكل السوق في الماضي دليلاً جديداً يحدد شكل السوق باعتباره الأقدم في دمشق.

بدا السوق أمام المهندسين قبل فترة وجيزة، بدون هوية أثرية. صور وثائق عام 1890 تشير إلى جماليات عتيقة، والشكل الحالي يؤكد على العشوائية والفوضى. بضائع وألبسة وأقمشة وقطع فولكلورية وغيرها، تتناثر على الواجهات وتملأ الأرصفة، واللوحات المضاءة متعددة الأحجام ومختلفة في الخطوط، والمحلات تضع البضائع فوق بسطات تملأ طريق المشاة فتتجاوز الأرصفة وتحتل مساحات واسعة لتخفي ما بقي من أجزاء أثرية بسيطة. ومع المساء يحين موعد الإغلاق ويبدأ أصحاب المحلات في تكديس بضائعهم داخل محلاتهم ليتم إخراجها في صباح اليوم التالي. إنه شكل تجاري غير منظم، ويجب أن يعود السوق إلى شكله التاريخي طالما أنه مخصص للسياحة والبيع في وقت واحد، إذ يستمر في استقبال السياح ليطلعوا على معالمه وهم لا يتوافدون من أجل شراء البضائع، لأنهم يمرون عبره ليصلوا إلى الجامع الأموي الكبير الموجود داخل برامج الزيارات السياحية إلى دمشق دائماً.

وخلال فترة لا تزيد على خمسة أشهر أنجزت ورشات البناء والصيانة مهماتها في السوق بدون أن تعرقل عمليات البيع وحركة السياحة، فاختفت المظاهر العشوائية، وبدأ المكان ينبئ عن توحده الشكلي بلافتات متساوية في الحجم، وبضائع معروضة بتنظيم شديد داخل المحلات،وأضواء تنثر جمالياتها، فاستعاد السوق ماضيه الأثري وأصبح أكثر جاذبية أمام الأنظار وهو يبرز التيجان والعواميد الصخرية بلونها الأصفر الداكن، ولكن الإحساس بالتنافس تضاءل لدى البعض لأنهم لا ينثرون بضائعهم من الألبسة الملونة والقطع الأثرية والمصنوعات اليدوية على الواجهات أمام الزبائن والسياح. ويشير كثيرون الى أنهم يدخلون في عملية تنافسية مع الأسواق الحديثة الأخرى التي بنيت في أنحاء المدينة بعد إزالة أحياء سكنية عديدة، ومنها سوق الحمراء الحديث وسوق الصالحية القديم وأسواق باب توما والقصاع القديمة والحديثة، بينما الحميدية ينافس هذه الأسواق لأنه الأول والأساسي والأكثر تنويعاً في بضائعه المعروضة أمام الزوار، حسب آراء عدد من تجاره والبائعين في محلاته.

تنافس الأسواق: حول طبيعة التنافس الموجودة داخل الأسواق بشكل عام، يقول التاجر وائل بركات الموجود في السوق منذ صغره: “التنافس مستمر أيضاً بين كل محلات سوق الحميدية، ومنذ صغري أعرف أن الجيران ينافسون بعضهم بتخفيض الأسعار دائماً ومنع الزبون من الانتقال إلى المحل المجاور، ولكنه تنافس لا يؤدي إلى خصام أو اعتراض. ومن القديم تعلمت أن أنظر إلى المحلات المواجهة وأعرف ماذا يريد الزبون، وحينما يخرج أشجعه على دخول المحل وأنا أؤكد له بأنني سأقدّم له أنواعاً جيدة ورخيصة الثمن وأفضل من البضائع التي شاهدها قبل قليل”.

وعن الاختلاف بين السوق في الزمن القديم والسوق حالياً من ناحية المكانة والشهرة، يقول: “إن الاختلاف أصبح يكبر مع تقدم السنوات. أيام الوحدة بين سوريا ومصر كان الأشقاء المصريون يأتون أولاً إلى الحميدية، ثم يزورون الأسواق الأخرى التي لا تستطيع مضاهاة الحميدية بتنوع بضائعها. وفي السنوات الحالية استطاع السوق أن يستوعب البضائع الجديدة لينافس الأسواق الأخرى، ويظل متميزاً ليحافظ على زبائنه”.

ويقول التاجر أحمد شلق إن كلام جاره صحيح ومنطقي، ولكن السوق مازال يحمل شهرته القديمة. ويضيف: “اسأل في بيروت أو القاهرة أو أي بلد عربي عن أهم الأسواق الدمشقية وسيقول الجميع حتماً انه سوق الحميدية. الآن زبائننا من الخليج العربي ولبنان. الستائر السورية ملأت البيوت اللبنانية بكل الأنواع، والألبسة انتقلت إلى هناك، وكل يوم أحد يزورنا عدد كبير من اللبنانيين مستغلين عطلتهم الأسبوعية، ليملأوا الحقائب”.

ويشير رائد خربوطلي، وهو صاحب محل متخصص في الستائر ومفروشات غرف النوم الى أن السوق يستقبل الزوار من دمشق والمحافظات الأخرى أيضاً. ويضيف بتأكيد: “وفي الحقيقة أننا في الحميدية لا ننافس محلات الحمراء والصالحية وباب توما والقصاع فقط. إننا ننافس بعضنا البعض. لا يستطيع واحد منا أن يرفع أسعاره لان جاره لا يرفع الأسعار. في الماضي كان السوق هو الأول في دمشق، وكان بين التجار ما يشبه الاتفاق الضمني، على وضع أرباح محددة للبضائع التي نشتريها من المصانع، أو نصنعها في مصانع خاصة. حالياً صار السوق واحداً من أسواق عديدة، ورغم تحوّل سكان دمشق من مليون إلى ما يقارب الستة ملايين بحكم الهجرة أو الإقامة الدائمة، نشعر بأن علينا أن ننافس الأسواق وننافس بعضنا، وهذا يعود لصالح زبائننا بالطبع”.

ويظل اسم سوق الحميدية مقترناً بدمشق مهما اتسعت الأزمنة أو تطورت وسائل التجارة أو تعددت الأسواق المنافسة.

ليست هناك تعليقات: