الجمعة، 8 أغسطس 2008

قصر الخلافة في دمشق







عندما فتح العرب المسلمون دمشق سنة 14ه/635 - 636م بقيادة خالد بن الوليد وأبي عبيدة بن الجراح كانت دمشق من المدن الكبرى التي كانت تحت حكم البيزنطيين، وكان سكانها من أصول عرب الشمال الذين دانوا بالمسيحية أو استمروا على وثنيتهم التي كانوا عليها في ظل أجدادهم الآراميين الذين آمنوا بالإله حدد إله الخصب والمطر، وأقاموا له معبداً كان يقع في مركز المدينة، وعندما استولى الرومان على دمشق أقاموا فيها معبد جوبيتر الدمشقي، وهذا المعبد مؤلف من هيكل مرفوع على أعمدة رومانية وسقفه جملون مرتفع، حوله سور ينفتح على الخارج من خلال بوابتين، واحدة من الشرق وأخرى من الغرب، وثمة باب ضخم ثلاثي الفتحات مازال قائماً حتى اليوم من جهة الجنوب، محتفظاً بزخارفه الرومانية القديمة مع جزء من السور الجنوبي القديم.



ويحيط هذا السور سور آخر أوسع أبعاداً، يحدد المنطقة الحرام للمعبد. ولكن هذا السور المحيط يحوي من داخله مقاصير كبيرة، كانت تستخدم لأغراض مختلفة، بعضها وثني وأكثرها للخدمات العامة، ولقد تعرف الأثريون على الشكل الحقيقي للمعبد الداخلي بعد أن تمت دراسة معبد مماثل في منطقة حصن سليمان قرب الساحل السوري. مازال قائماً واضحاً.إثر هزة أرضية هدمت معبد جوبيتر الدمشقي وأصبحت جدران المعبد أنقاضاً، ما عدا قسم من جداره الجنوبي الذي يحوي الباب الثلاثي الفتحات كما تحدثنا. ولقد حافظ الهيكل على شكله رغم بعض ما لحقه من خراب، كذلك السور الخارجي، فلقد بقي سالماً منه القسم الشمالي الغربي.



وفي العصر البيزنطي الذي تلا العصر الروماني أعيد استعمال الهيكل بعد ترميمه، لكي يصبح أقدم كنيسة في بلاد الشام، هكذا كان شأن البيزنطيين، فإنهم استعملوا جميع اليازيليكات الرومانية لكي توظف كنائس للعبادة، وقلما أضافوا إليها منشآت أخرى، فقد كان أغلبها بحالة سليمة.ولقد استقبل السكان في دمشق وحمص خاصة، العرب المسلمين استقبال الأخ لأخيه، على الرغم أن الديانة المسيحية التي رعتها الكنيسة البيزنطية كانت شائعة بينهم. وتوطدت أواصر التعاون والمحبة بين سكان دمشق وبين الفاتحين فأصبح منهم من تولى شؤون جباية الخراج، أو كان نديماً أو طبيباً خاصاً للخليفة.


وعندما ولى الخليفة عمر بن الخطاب معاوية بن أبي سفيان على دمشق، استطاع بحنكته ومرونته أن يقرب السكان إليه، وأن يستعين بهم في تكوين سلطة عربية وطيدة.لم يكن لمعاوية خيار في تغيير شكل الحكم، فلقد وجد نفسه أمام حضارة متقدمة تتمثل في منشآت ضخمة وفي ثقافة متطورة، ولقد استعان جيداً بمكتسبات هذه المدينة الحضارية، ولكنه مع ذلك لم يستطع تجاوز المصالح الخاصة بالسكان الأصليين، ولم يستعمل المنشآت التي كانت لهم، فأبقى على الهيكل الروماني المرمم والذي كان يستعمل كنيسة للمسيحيين، وأخذ يصلي في الزاوية الجنوبية الشرقية من السور الداخلي المتهدم، وكان مهجوراً منذ عصر الرومان، ولعله رمم هذا القسم فجعله مسجداً، تماماً كما فعل في القدس وقد ضمت إليه بعد وفاة أخيه يزيد، فلقد أنشأ مسجد عمر في قسم مهجور من كنيسة قديمة ثم أقيم مكانه المسجد الأقصى.
لسنا ندري شكل هذين المسجدين، ولكننا نجزم أنهما كانا أشبه برواقين بسيطين، أعيد في إنشائهما استعمال بعض الأحجار المتناثرة من أنقاض المعبد الروماني القديم.لقد كانت دمشق تزهو بآثار الماضي المتمثلة بأنقاض المعبد الروماني وسوره الخارجي، وكانت أطلال هذا المعبد والسور تبدو ماثلة شاخصة تشبه في ذلك آثار مدينة تدمر أو بعلبك، حتى أصبح يطلق عليها اسم "ذات العماد" وبعض المفسرين يعتقد أن ما ورد في الآية الكريمة (ارم ذات العماد التي ليس مثلها في البلاد( هي دمشق الآرامية في زمن الفتح العربي الإسلامي.ومع أن ثمة قصر قديم "كاستروم" كان قائماً في الجهة الشمالية الغربية من أسوار دمشق، أنشأه الرومان واستعمله الحكام في العصر البيزنطي، فإن معاوية بن أبي سفيان، ومنذ أن كان والياً، فضل إنشاء مسكن بسيط محاذٍ للمسجد، ليكون مقراً له ومركزاً لإدارة الدولة وممارسة القضاء بين الناس. لقد أقام بيته هذا، على غرار بيت الرسول الذي أنشأه محاذياً لمسجده في المدينة المنورة، ولا نعرف أبعاد هذا البيت، ولكنه ولا شك كان أولاً بسيطاً أنشئ من الطين، ولعله وبعد أن تولى معاوية الخلافة، قام بتقوية هذا البيت فأنشأه من الحجر، مستعملاً الأحجار القديمة التي كانت متناثرة حول الجامع، وأنشأ لبيته هذا قبة لونت باللون الأخضر، وهكذا أطلق على هذا القصر لقب الخضراء نسبة لقبته.وكان القصر يتصل بالجامع الذي كان يصلي فيه المسلمون في عصر معاوية، من خلال الباب الثلاثي الذي حمل اسم باب الخضراء. واستمر كذلك حتى أنشئ الجامع الأموي الكبير في عصر الوليد، فأصبح مقراً منفصلاً عن دواوين الحكمومع أننا نعرف أن معاوية أحدث ما يشبه الديوان للخراج والشرطة، ولكن مفهوم الديوان أخذ بعده الكامل في عصر عبد الملك بن مروان وأولاده من الخلفاء.. إذ توسعت رقعة الإمبراطورية العربية فوصلت إلى نهر الإندس شرقاً وإلى جبال البيرنه غرباً وإلى ما وراء النهر شمالاً، فكان لا بد من الدواوين وبخاصة ديوان البريد وديوان الشرط وديوان الخراج.ولقد عدد المؤرخون أسماء من ولّي الدواوين، ونستطيع أن نذكر أمثلة على ذلك، فإن ولاة الدواوين في عصر هشام بن عبد الملك، كانوا من أهل دمشق أو من الموالي، منهم عقبة بن عبد الأعلى القلاعي للشرطة وأسامة بن زيد للخراج والجند والربيع بن شابور للخاتم وعبد الله بن عمرو للخزائن وبيوت المال، وثمة ولاة آخرون للصلاة ولرسائل العمال، وللحرس وللخاتم الصغير والخاصة. وكان لا بد لهذه الدواوين من مقر يجمعها لكي تشكل ما يسمى بقصر الحكم والخلافة. فأين أصبح هذا القصر وكيف كانت عمارته؟إن السور الخارجي للمعبد الواسع والذي تبلغ أبعاده 380×310م، كان يضم مجالاً واسعاً يقع بين السورين. وفي هذا المجال كان الناس يتحركون للاتصال بالدواوين، التي استقرت في الأروقة التي كانت سوقاً في عصر الرومان يمتد مائة وعشرين متراً. ويبدو أن صفاً آخر من الأروقة أنشئ خارج السور الخارجي من الجهة الغربية والشمالية تشهد عليه الأروقة التي مازالت قائمة في مدخل الجامع الأموي الكبير، وأن مادة الإنشاء كانت الأعمدة والأحجار التي كانت أكواماً حول الجامع. كما تشهد على المخازن القديمة الآثار التي نراها في منطقة باب البريد غرباً وباب جيرون شرقاً.إن تسمية بعض المناطق التي كانت تقام عليها الأروقة باسم بين السورين والبريد أو الصاغة حتى يومنا هذا، واستعمالها إلى وقت قريب لأغراض متفقة مع التسمية يؤكد وظائفها الديوانية القديمة، بل إن بعضها استخدم لكي يكون مشفى أو مركزاً عاماً أو مدرسة كما تم في عصر الوليد بن عبد الملك.


على أن الصالات الكبرى التي كان يستقبل فيها الخليفة الوفود والرعية لم تكن في قصر الخضراء الذي استمر بيتاً خاصاً للخليفة، ولم تكن في الأروقة التي استعملت للدواوين، بل كانت في المشاهد التابعة للجامع الأموي الكبير. فمنذ أن أنشأ الوليد هذا الجامع، وسّع حدوده من الجانبين لكي ينشئ أربع مآذن ضخمة تتصل من الشرق والغرب بمشهدين، أي صالتين ضخمتين على جانبي المدخل الشرقي والمدخل الغربي، وفي هذه الصالات كان الخليفة يقيم ديوانه العام. وفي هذه الصالات استقبل الخليفة الوليد بن عبد الملك مع أخيه سليمان جحافل الأسرى وقوافل المكاسب الحربية، يقودهم موسى بن نصير وطارق بن زياد وقد عادوا بعد فتح الأندلس، وكان من الأسرى أفراد الأسرة المالكة القوطية. ويسهب المقري في وصف هذا المشهد الرائع الذي يدل على انتصار تاريخي من انتصارات العرب على الغرب.إن هذه الصالات التي تسمى اليوم المشاهد، مازال أحدها يستعمل حتى اليوم لاستقبال الوفود المحتفية بالأعياد الدينية التي يحضرها رئيس الجمهورية وكبار المسؤولين. ومازالت قائمة آثار الأروقة التي كانت تأوي دواوين الدولة عندما كانت دمشق عاصمة الدولة الإسلامية الموحدة والممتدة من الصين إلى المحيط الأطلسي.وهكذا نستطيع الإجابة عن سؤال مآله؛ إذا لم تكن القصور الأموية في البادية الشامية، معدة لاحتواء الدواوين، وإذا كانت بعيدة عن مراكز المدن وعن العاصمة دمشق البعد المعروف، فأين هو مقر هذه الدواوين، أين هي دار الخلافة أو الإمارة في عصر الأمويين. والدراسة الميدانية التي أجريناها تحدد أبعاد وطبيعة المنشآت التي احتوت دار الحكم الأموي في دمشق، وكانت مجهولة مبهمة غير محددة.

ليست هناك تعليقات: