السبت، 5 يوليو 2008

غرائب وطرائف الأسماء في الأماكن الدمشقية


الأسماء مفاتيح لعالم واسع قد يتمثل قي شخص أو مكان، وما اسم المكان سوى تكثيف لماهيته. والدخول في عالم اشتقاق وتاريخ تسميات وألقاب دمشق، هو سفر في عالم غني متخم بالحكايات والتخييلات المثيرة، وهذا ما يمنح مدينة دمشق خصوصية روحية وإنسانية، ساهمت إلى حد بعيد في خلق هالة من الغرائبية، مثلت رافداً هاماً من روافد الخيال الشعبي والأدبي الذي حوّم في أجواء دمشق كمدينة حقيقية. والمدن كالأشخاص فيهم المفتعل وفيهم الحقيقي، ودمشق كالقاهرة و مراكش والقدس…إلخ مدن حقيقية، تنبع حقيقيتها من خصوصيتها الشديدة التنوع و حدة تناقض ذلك التنوع.
ولعل الخوض في تاريخ الأسماء كالدخول إلى مغارة علي بابا المقفولة بالكلمة، ما أن تعرف كلمة السر حتى تنفتح مسارب الماضي وحكايات تحولات المكان، وتجلياته عبر الزمن. وألقاب دمشق عبر التاريخ كانت دوماً تعبرعن المكانة التي شغلتها في كل عصر فهي (قاعدة سوريا المجوفة) كما أسماها الإمبراطور الروماني يوليانوس. و(حاضرة الروم وبيت ملكهم) حسب الجاهلية، و(حصن الشام) في صدر الإسلام، وأيضاً (فسطاط المسلمين، وباب الكعبة، وجنة الأرض، وقصبة الشام، والفيحاء، والغناء والعذراء….إلخ ) و(ذات العماد) التي يعتقد أنها (إرم ذات العماد) الوارد ذكرها في القرآن استناداً على فكرة أن من بنى دمشق هو جيرون بن سعد بن عاد بن إرم بن سام بن نوح. و(شام شريف) كما لقبها الأتراك تقديساً لمكانة دمشق الدينية والروحية، وهو ما حمل الغالبية ممن قصدوا دمشق على التغني بها، بل وغض البصر عن ما تحمله طيات دمشق وأزقتها من بؤس و فقر بكل مستوياته الروحية والاجتماعية والاقتصادية، ورغم أن دمشق واحدة من المدن العربية التي شهدت أفظع صراعات السلطة ورصيدها التاريخي حافل بالدسائس والدم. تبدو مدينة دمشق طيبة رحيمة لدرجة البراءة . وهذا الشعور يخلق الرغبة في الولوج إلى عالمها بلا تحفظ، والسعي فيها إلى المغامرة وعيش كل مفرداتها الراهنة مع ما تحمله من قلق وصخب وهي تقف على تخوم الألف الثالثة.
و تقصي تحولات أسماء دمشق يمنح قارئها متعة اكتشاف أسرار تكونها منذ آرام وحتى اليوم، فهي (راس بلاد آرام)، في العهد الآرامي ومدينة (نعمان الأبرص الآرامي) قائد جيوش آرام . و (ببيت رمون) نسبة إلى هيكل رمون اللودي. ومدينة (المسرة) و (العازر) خادم إبراهيم الخليل. وجيرون أو (حصن جيرون) حسب التسمية الكنعانية أو اليونانية. وهي أيضاً (ديمترياس) نسبة لاسم الجالية اليونانية التي ألحقت بالمدينة. ودمشق هي (جلق) الاسم الذي ذكره كل من أرخ لها. كل ما سبق من القاب وتسميات يتمثل في اسم ولقب (الشام) الذي التصق بدمشق على مر العصور.
فمدينة الياسمين والعشق وقاسيون والأموي والشيخ محي الدين والسوق الطويل وحارة الورد والنقاشات، والنعنع والرمان، والشادروان والنوفرة …… هي مدينة الخراب والطنابر والكلبة والقط والجردون والمعمشة والميلة القعاطلة والمزابل وقليط وخبيني وخود عليك والله كريم وإلخ …. من تسميات تثير الفضول لاقتفاء سيرتها .
كل زقاق في دمشق وكل حجر فيه أو زاوية ممر عبور نحو مجاهل المدينة الأقدم في العالم التي لا تزال مأهولة بالسكان. والنبش في صناديق أسماء أمكنتها متعة كبيرة لما فيها من طرافة وبالأخص منها التشبيهات والكنايات الغريبة كاسم زقاق مطرح ما ضيع القرد أبنو، وزقاق الولاويل، أو جامع التوبة ، أو حارة الخمارات .. لكل اسم حكاية، وكل حكاية دعوة لاكتشاف الماضي، ضمن حالة من الاستلاب السحري تؤلف زمنها الخاص ما بين الآن والأمس الغائر في عمق التاريخ والأنا .
والطرافة في تسمية الأماكن الدمشقية جزء من طرافة الدمشقي، المعروف بالدماثة واللباقة المبالغ فيها، وهو ما يتعارف عليه بالدمشقة، كونه ابن بيئة تجارية منفتحة على الآخر، إذ ليس من السهل التعرف على مشاعر الدمشقي الحقيقية تجاه الغرباء، لأنه يخاطب الجميع كأنهم من أهل بيته، حيث يمنح الغريب شعوراً بالألفة دون أن يضطر الدمشقي لبذل جهد يتجاوز المعسول من الكلمات. من هنا تبدو غالبية الأسماء الطريفة للأمكنة الدمشقية نابعة من قصص وأساطير تعبر عن الخصوصية الدمشقية. زقاق القرد مثلاً سمي بذلك كناية عن ضيقه وإذا ما سألنا دمشقياً عن سبب هذه التسمية أجاب إنه: "زقاق مدخلج، فيه فوتات وطلعات وزواريب و زوابيق " أي أن هذا الشارع كثير التعرجات والتقاطعات الضيقة، بحيث يكاد الإنسان يضيع فيه عن سبيله. وكما للقرد زقاق في دمشق هناك أيضاً حارات للكلبة والجردون والقطط. وحارة الكلبة
الواقعة داخل حارة المفتي بسوق ساروجة. وسبب التسمية كما تذكره العامة، لأن كلبة ولدت جرائها فيها. أما حارة القط الواقعة جنوبي حي الأمين بمحاذاة السور من الداخل كانت تسمى قديماً (بستان القط) واستمر وجوده حتى الثلث الأول من القرن العشرين، كما ورد في خريطة شرطة دمشق (1922 ـ 1924 )، وهناك من يعتقد أن نسبة البستان تعود إلى أسم العائلة أو لقب شخص، ولا علاقة لها بالقطط. ورغم أن العامة ترفض أن تربط اسم الحارة بالقط بمعنى الهر فهم يسمون حارة أخرى قرب جامع الورد في سوق ساروجة (بحارة الجردون) لكن لم يجر تدوين أسباب تسميتها تاريخياً سوى ما يتبادر إلى الذهن من قصص مبتدعة ترتبط بمواصفات ذلك الجردون الذي يستحق أن يسمى حياً باسمه!! بعكس ما قد نلمسه في (حارة الزط) التي جاءت تسميتها بناء على تركيبتها الاجتماعية فهذه الحارة الواقعة في الشاغور الجواني والممتدة من الباب الصغير حتى شارع الأمين ، كانت مسكونة من قبل جماعة الـJAT وهم من الشعوب الهندو أوروبية تدين بالهندوسية ، ومنبعها من الهند شرقي البنجاب بين مدينتي أكرا ومهترا . وقد هاجر بعضهم إلى الشرق الأوسط . وسمعة الزط وضيعة في المجتمعات العربية حتى يضرب المثل بحقارتهم وخستهم، إذ تعتبر كلمة الزطي من الشتائم الفادحة، ومن تهكمات الدمشقيين المثل الشائع (طلع من بيت الزط مؤذن )!. والمفارقة أن هذه الحارة اليوم تدعى (جادة الإصلاح).
تلك التسميات التي تحمل معاني سلبية تعكس إلى حد ما سمات المكان رغم أن دلالات التسمية في ظاهرها قد لا تتوافق مع اصل اشتقاقها فسوق قميلة التي يظن للوهلة الأولى أنها مشتقة من قمل تبدو عكس ذلك رغم أن معانيها أيضاً سلبية، وسوق قميلة القريب من سوق النسوان ورد ذكره في عهد المماليك في القرن التاسع للهجرة في رسالة /نزهة الرفاق في شرح حال الأسواق/ لمؤرخ الشام يوسف بن عبد الهادي إذ قال : سوق البيمارستان أو سوق برا أو سوق قميلة، الثلاثة أسماء لسوق واحد تحت القلعة تباع فيه الخلقان. وفي العصر الحديث حرف أسمه ليصبح (ميله) وتستعمل هذه الكلمة كناية عن البضاعة الرديئة فيقال بالدمشقية الدارجة " إي شو جايبه من سوق ميله" وتحول هذا الاسم مع الأيام إلى مصطلح يراد به سوق الألبسة المستعملة البالة ليصبح سوق (أبو ميله) .
ومن التسميات المستطرفة في دمشق ما أطلق على بعض المقاهي مثل (قهوة خبيني) بآخر سوق القباقبية تجاه مقهى النوفرة خلف الجامع الأموي. وأصل تسمية خبيني قديم وسبق أن أطلقت في القرن الثاني الهجري على مقهى غربي التكية المولوية عند ساحة الحجاز اليوم وشاعت هذه التسمية الشعبية بين الناس في العهد العثماني زمن الاتحاديين الأتراك، حين كان أولئك يعمدون إلى البحث عن الشبان لسوقهم إلى الخدمة العسكرية المعروفة بحرب (السفر برلك)، وذلك على أساس مبدأ القرعة، وكان ضابط مفرزة السوق أو الأخذ عسكر(الشاويش) يعتمر قبعة طويلة من اللباد الملقب أبو لبادة، قد اقترن اسمه بالخوف .. وللدلالة على عبوره السوق يصرخ الناس عباية ..عباية حتى يتمكن الشبان من الهرب، لذا سميت المقهى (خبيني) لأن الشبان يلجئون إليها طالبين الملاذ، قائلين لمن بها: خبيني. وتكاد تتقاطع ظروف قصة تسمية ( قهوة خبيني ) مع قصة (قهوة الله كريم) من حيث الطرافة إلا أن الأخيرة كانت للمتفائلين بغد أفضل من المتقاعدين بينما خبيني هي مقهى الهاربين من مستقبل مشؤوم، وقهوة الله كريم التي كانت بقرب جامع يلبغا في محلة البحصة، معظم روادها من ضباط الجيش العثماني المتقاعدين و اللذين تم تسريحهم بعد خلع السلطان عبد الحميد، وكان هؤلاء كلما مر من أمامهم ضابط شاب بزيه العسكري المهيب وشاراته وأوسمته المذهبة يقولون مع تنهيدة : "إيه …..الله كريم" أملاً بعودتهم إلى الخدمة ورجوع أيام العز السابقة برجوع السلطان . بينما (قهوة خود عليك) في منطقة الشادروان على طريق بيروت القديم فكانت تحتل ضفة نهر ثورا، سميت ( خود عليك) كناية عن ازدحامها، حيث يطلب الداخل إليها مكاناً من الجالس بالقول وسع لي مكاناً بجانبك أي ( خود عليك ) . وقد زال اثر هذا المكان بعد أن احتلته المقاصف والمطاعم بشكلها الحديث وتغير ملامح المدينة. ومما يشير إلى توقد الروح الدمشقية في اختراع تسميات أماكنها تسمية (مقهى التايبين) الواقعة عند مفرق المزة من ربوة دمشق، وعدم وجود العاب قمار في صالتها جعل روادها يطلقون عليها اسم التايبين تأثراً بلقطة سينمائية في فيلم (امرأة تسكن لوحدها) لدريد ونهاد الذي ظهر في السبعينيات. والتصقت هذه التسمية بالمقهى حتى جرى هدمه لإقامة عقدة جسر الربوة عام 1976 م .
ومن الأماكن الدمشقية التي حفلت بروايات الخيال الشعبي زقاق (الجن) الشهير اليوم كسوق صناعي لبيع قطع تبديل السيارات، تعيد العامة سبب تلك التسمية إلى أن المنطقة كانت مسكونة بالجن قبل أن تعمر، وكان الجن ينشرون في أجواءها العطر والبخور. وربما يكون سبب وجود مثل هكذا اعتقاد إلى كون المنطقة كثيرة الرياح لوقوعها على ممر الريح بين جبلي الربوة والمزة، والرياح التي تحرك أشجارها العالية فتصدر أصوات حفيف تشبه الهمهة والصفير. وكان لبعض الحوادث التي جرت مع المارة أثراً في ترسيخ الاعتقاد بوجود قوى خفية في المنطقة، كسقوط أغصان الأشجار عليهم. وثمة أخبار تفيد بأن الناس كانوا يتجنبون العبور في هذه المنطقة خوفاً من الجن، مما شجع السفهاء والحشاشين للجوء إليها وممارسة حياتهم الليلية فيها،وهذا ثبّت اسم الجن على هذا الزقاق، وشجع على نسج تخاريف تلهب الخيال، وتمنح المكان هالة من الغموض والرهبة، كما قد تفعل مثلا تسمية (حبس الأموات) على أحد الأزقة في العمارة الجوانية، وقد أطلقت في البداية على المدرسة الناصرية الجوانية، وشاع لقب حبس الأموات في عصر عبد القادر بدران حيث كان يحبس فيها من يموت وعليه دين حتى يتطوع الناس لسداد دينه .
وهناك العديد من الأمكنة ذات التسميات التي تحمل دلالات ومعاني سلبية، تبدو غير منسجمة مع روح دمشق المشهورة بالورود والياسمين مثل (حارة المزابل) بحي العمارة الجوانية، وقيل أن تسمية هذه الحارة تعود إلى الفترة التي أقام فيها الأمير عبد القادر الجزائري قصراً في العمارة الجوانية أوائل القرن التاسع عشر، وكان لهذا القصر جسر خشبي على فرع نهر العقباني يصل بين زقاق النقيب حيث القصر وبين حي الشرف الأعلى، وكانت بقرب الجسر أرض خلاء استخدمت لمزابل القصر. لكن أواخر القرن التاسع عشر صارت هذه الأرض حارة وأقيمت فيها المنتزهات على طرفي النهر. وحارة المزابل تستدعي للذهن التأمل في أصل تسمية (حارة القعاطلة) الواقعة قبالة الباب الشرقي شمالاً، تنسب هذه المحلة إلى موقع بيت (نعمان الآرامي ) رئيس جيش ملك آرام بنحدد الثاني، وقد ورد في الكتاب المقدس بأنه أصيب بالجذام أو البرص، وشفي على يدي النبي اليشاع بعد اغتساله بمياه نهر الأردن، والعديد من الرحالة والمؤرخون العرب والأجانب أشاروا إلى أن مكان هذا المنزل أقيم مصح للجذام ، واليوم لا أثر لذلك المصح، بينما ظلت التسمية التي هي أساساً مشتقة من لفظة عامية (أعطلة) وتعني القذارة ويستخدمها الدمشقيون تفكهاً كناية عن العمل غير المتقن.
وضمن السياق ذاته لأسماء الأمكنة ذات الدلالات المكروهة تسمية (نهر قليط) الفرع الصغير لنهر بانياس المتفرع عن بردى، المار قريباً من الباب الشرقي، ودعي (قليط) لما يحمله من الأقذار والنفايات حتى ليضرب المثل بوساخته فيقال (فلان مثل قليط إذا حركته بتطلع ريحته) . وهناك أيضاً زقاق البرص الذي يثير مشاعر سلبية مع أن الباحثين يردون اسمه الغريب إلى عدة اشتقاقات متناقضة المعنى منها بَرص، وبورص، بوس، وهو زقاق متعرج يقع بين سوق الحميدية والبيمارستان النوري، و ذكر في خريطة شرطة دمشق زقاق البوس، البعض يعتقد اصل التسمية من كلمة بورصة سوق الأسهم المالية ومنهم من يقول أنها من البرص جمع أبرص وهو داء البهق، بينما فسرها فريق آخر أنها من البوس بمعنى التقبيل، وكلها تفسيرات لا مستند تاريخي موثق لها .. أما زقاق (الولاويل) الذي يولد العديد من الأفكار والقصص الخرافية، فيقال أن اسمه زقاق الزعاويط ويعتقد أنه في حي الميدان، وهو كاسمه حّير الباحثين بتحديد مكانه أو سبب تسميته، كما هو الأمر مع زقاق المعمشة و زقاق البلطجية وسوق الشراطيط …. إلى جانب تسميات كثيرة يصعب حصرها في مقال واحد كحي الطنابر في محلة الشيخ محي الدين في الصالحية التي كان أغلب سكانها من أصحاب الطنابر "الطنبرجية".
دمشق لم تتجمل ولم تخفي فقرها بل قدمته بطرافة خاتلت من خلالها الواقع ، فظلت دمشق مدينة تحفل بدلالات ومعاني تعبر عن حالة مختلطة، يصاب بها من يعايش دمشق اليوم فهي بين ثقل الموروث الهائل بكامل تجلياته وبين التوق للحاضر والقفز إلى المستقبل كحاجة يفرضها عصر الاتصالات والانفتاح .. لم تتضاءل كمدينة للورد والمياه، حتى بعد جفاف غالبية أنهارها وتبدل ملامحها،ولعل شهرة دمشق بالمياه والخضرة بالإضافة إلى جمال نسائها جعلها أقرب ما تكون إلى الجنة كما وصفها الشعراء، فحارة الورد والخضرا والزيتون والرمان وجناين الورد وجنينة النعنع والفردوس والروضة والجسر الأبيض تسميات حية وشائعة تعبر عن ملامح جمالية رفيعة تصور الملمح الدمشقي الذي استقطب الكثيرين. وربما تبدو هذه التسميات مجازية تطلق على بعض الأمكنة دونما مستند واقعي، لكن لا يمكن تجاهل تاريخ ولادة تلك التسميات ، فحارة الورد سميت نسبة إلى حكر الورد الذي كان في موقعها ورغم تبدل اسم هذا المكان في العهد المملوكي عاد اليوم ليثبت على الحارة ويطلق على أهم معالمها كجامع الورد وحمام الورد. وكذلك قصة تسمية جناين الورد في محلة القصاع، أما جنينة النعنع في محلة شرقي التكية السليمانية، والتي قام مكانها مركز لانطلاق السيارات اليوم، كانت معروفة في الثلاثينات من القرن العشرين بثلاثة أسماء تدل على سمات تلك الجنينة فهي جنينة النكلة وهو ثمن تذكرة الدخول إليها، وهي أيضاً جنينة النسوان لان روادها فقط من النساء إلى جانب تسميتها بجنينة النعنع لأنها قامت على أرض بستان اشتهر بزراعة النعنع. وما تزال هذه التسمية شائعة على المنطقة رغم زوال الجنينة كما هو الأمر بالنسبة للجسر الأبيض الذي كان مبنياً من الحجارة البيضاء على نهر ثورا ،بين محلة الصالحية والعفيف ومع أن الجسر غير موجود إلا أن التسمية لا تزال مستخدمة على منطقة تحولت إلى سوق تجاري حديث، و قد عرفت هذه المنطقة ببدايات القرن الماضي كبساتين فاكهة وبالأخص الدراق. ومن بساتين الجسر الأبيض إلى شلالات منتزه الشادروان تقودنا دمشق نحو مزيد من شغف الماضي، فكلمة (الشاذروان) فارسية تعني الميزاب أو المسيل الصغير وسميت بالشادروان لكثرة ميازيب المياه فيها.
دمشق مدينة العشق والفل والياسمين وجنة المياه والفاكهة كما وصفها الكثيرون تحير قارئها فرغم توسعها الهائل المنظم والعشوائي لا زالت تحتفظ في ثناياها بالمفاجأت والأسرار الجميلة والمثيرة للخيال فعند العبور في الشوارع الجديدة للمدينة تبدو مدينة حديثة تسابق الزمن من حيث التنظيم والاتساع وانتشار المحال التجارية بواجهاتها المبتكرة وارتفاع الأبنية الشاهقة، وغلبة الفوضى على نمط العمارة بحركية قلقة لا يمكن فصلها عن سمة العصر، لمدينة في العالم الثالث تنفتح مساربها على كافة أرجاء المعمورة. وما أن يتم اجتياز خط البناء الحديث على طرفي الشوارع الكبيرة حتى يتصاعد نبض دمشق العتيقة، حيث لا يمكن للغريب عن دمشق خلال عبوره أتوستراد المزة توقع وجود بساتين الصبار الشاسعة خلف العمارات الاسمنتية الممتدة على جانبي الاتوستراد، وأنه ما أن يعبر الأحياء المترفة سيواجه ريفا فقيرا، وكذلك شارع بغداد الذي يتوسط دمشق إذ أن غالبية دخلاته وعوجاته تقود إلى حارات قديمة من خشب وطين، وأيضاً شارع الثورة وأتوستراد العدوي والعباسيين .. وكأن دمشق لا تملك القدرة على تجاوز الماضي بأجزائها الفقيرة التي ما تزال تتنفس به.
حتى أن دمشق اليوم بنسيجها المعماري والاجتماعي المرتبك، يبدو مألوفاً فيها وجود شرائح من الشباب المنفتح على ثقافات العالم الأخرى والتواق إلى تمثلها بالعديد من المظاهر الخارجة عن التقاليد الدمشقية. تعيش في بوتقة الأحياء القديمة بعمارتها شديدة التحفظ، لتبدو تلك العمارة خجولة من إرثها. كأحياء القصاع وباب وتوما والصالحية. وعلى النقيض تماماً قد يسكن الأحياء الحديثة بعمارتها المنفتحة شرائح اجتماعية نزحت من دمشق القديمة ومعها الماضي بتقاليده الصارمة، وخصوصيته الدمشقية الاجتماعية الأصيلة. كالمزة الغربية وأبو رمانة والمالكي … و بين النقيض والنقيض يمتد جسر من التواصل بأمكنة تستوعب النقيضين في علاقة جدلية بين الماضي والحاضر اجتماعياً ومعمارياً. يأخذ فيها الوافد المكانات العتيقة بينما ينزح الدمشقيون إلى مدينتهم الجديدة . وهكذا هي دمشق الآن قطعة موزاييك سياحية لها من الماضي الاسم والشكل، المشغولين بمواد هجينة تلفت الأنظار وتستثير الرغبة لتلمسها والتعرف على خاماتها ….
لقد اتسعت دمشق وامتدت لتحتوي أريافها، بسواعد من أحياء حديثة تغطي الأعداد الكبيرة من الوافدين إليها من عرب وسوريين مهجرين ونازحين ريفيين أو أبناء مدن أخرى، فكانت مدينة من طراز المدن الكبرى، لغناها وتنوعها الجغرافي والاجتماعي ولم تعد أرياف دمشق مناطق نائية بل هي أحياء تم التواصل معها بحراج من أسمنت وحديد، كمشروع دمر، وقدسيا وحرستا والقابون وجوبر و جرمانا ومخيمات…….إلخ، لتصبح دمشق اليوم تجسيداً للقب الشام بكل ما لهذه الكلمة من اتساع جغرافي، تتمتع بقدرة كبيرة على امتصاص تلاوين الوافدين إليها ومنحهم لوناً آخر يكاد لا يظهر فيه اللون الدمشقي الأصيل، ضمن نسيج اجتماعي خليط يتحدث بلهجة شامية منكهة بالدمشقية.ومهما بدت دمشق تواقة للغد لا يمكنها التخلي عن الماضي.
لم تعد دمشق تلك المدينة الساحرة بقدر ما هي الشام المرتابة كمسرح واسع يؤمه الممثلون والجمهور من كل صوب. تخبئ تاريخها في الكواليس، ومن هناك تدير خشبة المسرح وتصنع الأحداث وتسمي الممثلين، تتواطأ معهم، يمنحونها أنفسهم، فتمتعهم بروحها، وكأنهم امتلكوها. لكن دمشق هي جيرون وجلق والشام ملك لنفسها مهما تعاقب على خشبتها الممثلون .

ليست هناك تعليقات: