الخميس، 3 يوليو 2008

أهدتني الدنيا وأهديتها الأخرة.. قصة

فاجأني المخاض بعد تسعة أشهر مريرة لا يمكن وصفها بأبلغ من "وهن على وهن" كان ذلك في يوم 25 رمضان (في نهار شهر ديسمبر البارد)، وفي تلك الليلة المباركة التي يكثر فيها الدعاء وتزيد فيها نبرات الإلحاح في الابتهال والرجاء كان رجائي أن يرزقني الله تعالى بذرية صالحة.



جلست على السرير أنظر في ترقب شديد تحرك عقرب الدقائق ، باقي 10 دقائق حتى تنطلق الطلقة الثانية، بدأت الأمور تنتظم، وبينما عيناي ترقبان الساعة وعقاربها وتحركها البطيء، سرح خيالي بعيدًا إلى 33 عامًا مضت على سرير أشبه بهذا، وفي شتاء أشد بردًا، وفي بيت أضيق من بيتي جلست أمي - رحمها الله وأنزلها فسيح جناته - تنظر هي الأخرى إلى عقارب الساعة، وسط أجواء احتفالية - ولكن من نوع آخر - كان الناس في الخارج يحتفلون على ضوء الشموع حول شجرة الكريسماس بميلاد السيد المسيح، في الليل تجتمع العائلات في ألمانيا، حيث قدر لي أن أخرج إلى الدنيا بجوار المدفئة وحول شجرة الكريسماس المزينة بكافة الألوان وأنواع الزينة المضيئة والمتلألئة؛ ليتسامروا ويتحدثوا سويًّا في جو هادئ، ترى ماذا كان دعاء أمي في مثل هذا اليوم، حيث كانت آنذاك وظلت لسنوات طويلة امتدت إلى ما يزيد على 20 عامًا على دينها - النصرانية الكاثوليكية؟

ليس سهلاً على الإنسان أن يعيش وسط بيئتين متباينتين مثلما عشت أنا - الأم ألمانية نصرانية لا تتكلم العربية إلا قليلاً - الأب مصري متمسك بتقاليد وعادات بلاده إلى حد كبير.

لكن ومع ذلك فقد حاولت أمي بكل حكمة وفطنة أن تقرب بين الحضارتين، وأن تزيل كل أسباب التباين والصدام، حتى إنني ما زلت أتذكر جيدًا عندما كنت في سن العاشرة وطلبت من عمي أن يكتب لي كلمة للذكرى في دفتري الخاص، وصفني يومها ببنت الحضارتين؛ وذلك لجمعي بين أخلاق ودفء مشاعر أهل الشرق، مع أساليب التفكير العلمي العقلاني الذي ميّز الغرب.

حبل الرحم الممدود

لم تكن مهمة أمي - رحمها الله – سهلة، فكيف يمكن لأم أن تربي أولادها على تقاليد وعادات لا تدري عنها شيئًا، بل ودين هي غير مقتنعة به، وكان هذا هو التحدي الأكبر الذي اجتازته بكل نجاح، كانت أمي عندما بدأنا نتعلم الصلاة في المدرسة، وبدأنا ننتظم فيها، تذكرنا بها. أليس هذا عجيبًا؟! وعندما كنت أحفظ القرآن لامتحان المدرسة كانت تمسك بالكتاب وتساعدني، كانت لا تقبل إفطارنا في رمضان، بل تحثنا عليه وتشجعنا.

كانت أكثر من كثير من المسلمين واصلةً للرحم، حتى حينما حدث خلاف عميق بين أبي وإخوته ظلت هي حبل الرحم الوحيد الممدود بين الأخوين، ولم يهدأ لها بال إلا عندما تحول الحبل إلى جسر ممدود، ويرجع لها وحدها - بعد الله سبحانه وتعالى - الفضل في إعادة العلاقات إلى طبيعتها، كانت تتحرك مدفوعة بالأخلاقيات الحميدة التي تربت عليها، حتى إن الكثيرين كانوا يتعجبون عدم إسلامها، فهي كما كان يصفها الجيران الأخلاق تمشي على الأرض.

أدركت بعد زمن طويل، بعد 26 سنة من حياتي معها أنه كان هناك اتفاق مسبق قبل زواجها من أبي ألا تتدخل في تربيتنا الدينية، ولكن إحساسها الداخلي بأن التربية الروحية والدينية هي جزء لا يتجزأ من البنيان النفسي للشخصية المتكاملة، دفعها دومًا إلى حثّنا على التقرب لله - تعالى - وعلى التمسك بالأخلاقيات والآداب.

الامتحان الصعب

في إحدى مراحل حياتي أعدت التفكير فيما حولي من أمور، وقررت أن أرتدي الحجاب بعد اقتناع داخلي لم أناقش فيه أحدًا بالمرة، وهو القرار الذي فاجأت به أهلي عند عودتهم من سفر طويل. وكان رد فعل أمي هو كل ما يشغلني - كيف ستقبل أمرًا لا تدري عن فرضيته وثوابه شيئًا - كيف سترضى بأمر ديني ظاهر وواضح، وله - يقينًا - تأثير على حياتي كلها.

لم يَدُر في خلدي - ولو للحظة واحدة - أن أجابه بحرب شعواء ضارية من قبل والدي المسلم والتي استخدم فيها كافة وسائله كأب من تهديد ووعيد وتوبيخ إلى ضرب وطرد من المنزل، لماذا؟ لأنه غير مقتنع؟!

لكن أمي – رحمها الله رحمة واسعة – وقفت بجانبي تهدئ من روعي، وحينما سألتها: هل أنت راضية عني؟! أجابت بحزم: "لن أناقشك في أمر ديني، فلكل منا دينه، ولكني لست راضية من داخلي عن فعلك هذا، افعلي ما يحلو لك ولكني غير راضية".

غير راضية!! إحساس قاس جدًّا، امتحان صعب للغاية؟ ولكن أقسى منه وأشد إيلامًا هو التفكير في "ماذا بعد"؟ أنا أحبها – أحبها لأنها كانت أمًّا بكل ما تحمله الكلمة من معان سامية، ولكن كيف ستكون الآخرة؟ هل إذا توفاك الله وأنت على هذه الحالة، سيكون فراقنا الفراق الأبدي؟

يهدي الله من يشاء

وفي يوم ذهبت إلى أستاذ في الشريعة أسأله عن المدخل الصحيح لإقناع أمي التي عاشت بين المسلمين 26 عامًا ولم تسلم – بالإسلام وبعقيدة الإسلام – من أين أبدأ؟ هل بالحديث عن العقيدة، عن سماحة الإسلام، عن أركان الإسلام؟!

ولكن جاءت الإجابة على غير توقعي.. "القلوب بين يدي الرحمن يقلبهما كيف شاء، عليك بالدعاء والابتهال حتى تسيل الدموع في قيام الليل، والقرب من الله، والرجاء…"، على قدر حبي لها على قدر شوقي لإسلامها، وعلى قدر الشوق كان الدعاء والابتهال والتقرب إلى الله تعالى في قيام الليل.

لم تمضِ سوى أسابيع قليلة حتى جاءت البشرى، من حيث لا نحتسب، جاء أبي وأخبرني أن أمّنا لا تمانع في دخول الإسلام، ولكن كيف؟ منذ متى وهي تتكلم عن هذا الموضوع؟ لطالما حاولنا فتح أي موضوع ديني معها ولطالما صدتنا ورفضت هي ذلك.

لكنها أسلمت بفضل الله وكرمه وإحسانه علينا بعد أن سألتنا بعض الأسئلة البسيطة في العقيدة، ولم تمضِ سوى أيام معدودة حتى أشهرت إسلامها في الجامع الأزهر، ونطقت بالشهادتين، وأقرت "بأن عيسى هو عبد الله ورسوله" مثلما يطلب من النصارى عندما يشهرون إسلامهم، فعمت قلوبنا – نحن أبناءها – فرحة لو وُزِّعت على أهل الأرض والسماء لوسعتهم وفاضت، ولو حاول أدباء الكون وصفها لعجزوا جميعًا.

هذه قصتك يا أمي الحبيبة أكتبها لتنشر على الإنترنت الذي لم تعيشي حتى تشاهدي دخوله بيننا، تغيّر في حياتي الكثير منذ رحيلك عنا، رزقت من الأبناء من لم تَرَهُم عيناكِ، غيّرت مسار حياتي ومهنتي، تغير مكان إقامتي.

ولكن الشيء الوحيد الذي لم يتغير ولن يتغير أبدًا هو حبي لك، شكرًا أهديتني الدنيا.. وأهديتك الآخرة.

الكاتبة :
منى يونس
18/03/2001

ليست هناك تعليقات: